عبد الرحمن الرافعي
أهم ما يذكر به الأستاذ عبدالرحمن الرافعي ، وما سيذكر به مستقبلا ، هو تاريخه للحركة الوطنية المصرية.من نهاية القرن الثامن عشر حتى نهاية الخمسينيات من القرن العشرين . فقد تتبع هذه الحقبة ذات الأهمية البالغة في مصير مصر الحاضر والمستقبل ، في خمسة عشر مجلدا أخرجها للناس على مدى ثلاثين عاما منذ ۱۹۲۹. وليس من قارئ في التاريخ المصري ، وليس من مهتم به إلا وللرافعي في عقله وجود.ولادتهُ
ولد عبدالرحمن الرافعي في 8 فبراير ۱۸۸۹ بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر بسبعة أعوام ونصف . وتفتحت بصيرته مع بداية القرن العشرين على صحيفة (اللواء) وخطب مصطفی کامل ونشاط الوطنيين من هذا الرعيل ، تفتحت مع تفتح أكمام الحركة الوطنية في مرحلتها الجديدة ، مرحلة المقاومة للاحتلال البريطاني .
نبذة عن حياتهِ
كان الرافعي من الجيل الذي شب في السنوات الأولى من هذا القرن ، وصنع ثورة ١٩١٩ ، وعاش أحدائا في أعقاب الثورة » ، حتى استوفى العمر وأسلم الشعلة في نهايات الأربعينيات إلى من يليه من أجيال أخرى . وهو جيل لم يصنع ثورة ۱۹۱۹ فحسب ، ولكنه الجيل الذي صنعته الثورة ، ثورة « مصر للمصريين » بما يعنيه هذا الشعار من قيم وطنية وديمقراطية وما يلقيه على عاتق حامليه من مسئوليات النهوض بالمجتمع ، وتمدينه في كافة ميادين التطور . وقد ألقت نيران الثورة في قلب رجاله وهجالم تبرد حميته ، فقدم في الأدب أمثال طه حسين وأحمد صادق الرافعي والعقاد وأحمد أمين وزکی مبارك ، وفي الإسلاميات أمثال الشيخين مصطفى عبدالرازق ومحمد شاكر والشيخ دراز ، وفي القانون أمثال أبو هيف وأحمد أمين والسنهوري وعبدالحميد بدوى والشيخ أحمد إبراهيم ، وفي الطب أمثال على إبراهيم ونجيب محفوظ ، وفي الاقتصاد أمثال طلعت حرب . وغير هؤلاء في هذه الفروع وفي غيرها كثيرون ، وكان هؤلاء جميعا هم طليعة من قام باستزراع العلوم والمناهج الحديثة في التربة المصرية ، ومن شاد - في حدود الإمكانات التاريخية - الهيكل الحديث للمجتمع المصري ، فكرا واقتصادا وسياسة وإدارة وعلما .وللرافعي مكانته بين هؤلاء في تاريخه لمصر الحديثة .
كتابات الرافعي
ولعل كتابات الرافعي التاريخية فيما تكشفه من فکر سیاسی ، تعتبر أكثر ما يقرأ الآن من الأدب السياسي ، لرجال هذا الجيل . إن غالب ما يقرأ الآن من كتابات هذا الجيل ، نجده في مجال الأدب والفكر والمجالات المتخصصة كالقانون والفلسفة ونحوهما ، مثل أحمد أمين والعقاد والسنهوري وغيرهما . أما كتابات رجال السياسة ومفكريها ، أو الكتابات السياسية لأمثال العقاد وسلامة موسی ، فلا تكاد تجد قراء لها في غير دوائر البحث والدراسة . وليس إلا الرافعي تقريبا من تشیع قراءته الآن وتتصل كتاباته أوثق اتصال بالسياسة فكرا ومنهجا لرجال جيله ، وذلك بحكم الصلة الوثيقة بين التاريخ السياسي والسياسة ، وبحكم أن الرافعی کان من رجال السياسة في وقته ، وبسبب أن قسما كبيرا من أعماله التاريخية يتعلق بالفترة التي عاشها مع جيله منذ بداية هذا القرن حتى منتصفه ، والرافعي في هذا يمثل نموذجا مهما من نماذج الفكر السياسي الوطني الذي كان يدور في مصر من خلال النصف الأول من القرن العشرين .
وإذا كانت أجيال الحاضر المعيش تري في كتابات الرافعی- رغم الاقتناع بنزعته الوطنية والتقدير البالغ لهذه النزعة في جميع ما كتب - ترى فيها قدرا من « التبسيطه للمشاكل والتيارات ، ونظرة محدودة الجوانب » في تحليل الأحداث التاريخية . فإن هذه الأوصاف لا تلحق فكر الرافعي وحده ، ولكنها تشير أيضا إلى اختلاف الصياغة السياسية لعقلية الأجيال الحاضرة على اختلاف تیاراتها ، عن الصياغة المماثلة لجيل هذا المؤرخ الكبير ، وذلك نتيجة اختلاف المشاكل وتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية . فإذا كان الفكر السياسي للرافعي لا يزال مقروءا للآن ، فتلك ميزة امتاز بها الرجل لتأليفه التاريخية ، ولكن هذه الميزة أردفت في ركابها شيئا من سوء الحظ ، إذ نظر جمهور الحاضر إلى فكره كعنصر في الحياة السياسية المعيشة لا كفكر ينتمي إلى الجيل السابق ، وتطرف كثيرون فقيموه بميزان الحاضر فطفت كفة الرجل ظلما .
وإذا كانت أجيال الحاضر المعيش تري في كتابات الرافعی- رغم الاقتناع بنزعته الوطنية والتقدير البالغ لهذه النزعة في جميع ما كتب - ترى فيها قدرا من « التبسيطه للمشاكل والتيارات ، ونظرة محدودة الجوانب » في تحليل الأحداث التاريخية . فإن هذه الأوصاف لا تلحق فكر الرافعي وحده ، ولكنها تشير أيضا إلى اختلاف الصياغة السياسية لعقلية الأجيال الحاضرة على اختلاف تیاراتها ، عن الصياغة المماثلة لجيل هذا المؤرخ الكبير ، وذلك نتيجة اختلاف المشاكل وتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية . فإذا كان الفكر السياسي للرافعي لا يزال مقروءا للآن ، فتلك ميزة امتاز بها الرجل لتأليفه التاريخية ، ولكن هذه الميزة أردفت في ركابها شيئا من سوء الحظ ، إذ نظر جمهور الحاضر إلى فكره كعنصر في الحياة السياسية المعيشة لا كفكر ينتمي إلى الجيل السابق ، وتطرف كثيرون فقيموه بميزان الحاضر فطفت كفة الرجل ظلما .
مجموعته التاريخية
وإن من أفضل ما تثبته مدرسة التاريخ المصرى للرافعي المؤرخ ، أن مجموعته التاريخية تكاد تكون أجمع مجموعة صدرت في عصره وإلى الآن تغطي حقبة التاريخ المصري الحديث كاملة . كما تثبت ما قدر للرافعي من أن يضع نقطة البداية للحركة الوطنية في العصر الحديث ، وهي المقاومة الشعبية للحملة الفرنسية التي غزت مصر في نهاية القرن الثامن عشر . وكان تعيينه لهذه البداية تعيينا علميا ذكيا يشير إلى حاسة سياسية تاريخية مرهفة . كما تثبت له أنه صاغ تاريخ هذه الفترة على وستین سنة صياغة وطنية مصرية تتسم بالأصالة رغم ما يظهر فيها من نواحي القصور
ومن أفضل ما يثبت للرافعي المؤرخ أيضا ، هذا الدأب الدءوب والصبر الصبور الذي تميز به وعاني منه عشرات السنين رغم عدم الرواج وركود السوق .
ومن أفضل ما يثبت للرافعي المؤرخ أيضا ، هذا الدأب الدءوب والصبر الصبور الذي تميز به وعاني منه عشرات السنين رغم عدم الرواج وركود السوق .
مجلداته
وقد بدأ إعداد المجلد الأول من مجموعته في ۱۹۲۹ وتلته مجلدات ثمانية حتى١٩٤٢ وبذل في ذلك جهودا مضنية وتكلف عناء كبيرا ، ولكن حتى هذا التاريخ الأخير كان إقبال المثقفين على قراءته ضعيفا وكان يطبع كتبه على نفقته ويعاني في توزيعها ، وبدأ الإقبال على كتبه من أوائل ١٩٤٣ عندما اشترت منه مكتبة النهضة المصرية مخزون كتبه كله ودفعت جملة الثمن إليه مخصوما منه ٤٠% فبلغ ما استلمه عن تسعة مؤلفات ۸۸۳ جنيها وقبلت الصفقة مغتبطا . وأدركت في هذا اليوم أن کتبی قد لاقت شيئا من الإقبال الذي كنت أنتظره منذ أكثر من خمس عشرة سنة . وحتى بعد ذلك ظل الرافعي يجد من المثقفين من يسأله عما إذا كان كتب عن مصر محمد علي في وقت كان قد وصل بتأريخه إلى ثورة ١٩١٩ ، أو يسأله عما إذا كان كتب جزءا أم جزءين في وقت كان أخرج فيه اثنی عشر جزءا .
وكان هذا الدأب منه فضيلة أخلاقية قل من يتصف بها ، بما فيه من إنكار للذات وبذل أقصى الجهد بغير عائد أدبي عاجل ولا عائد مادی عاجل أو آجل . وضع أشبه بمقام الفناء في لغة المتصوفة ، ولا يكاد يشاهد مثل بارز له الآن إلا ما كان من الأستاذ نجيب محفوظ في الشطر الأول والأكبر من تاريخ نشاطه الأدبي . فرد يعمل وينشط بغير مشجع من هيئة ما ولا انتماء إلى مؤسسة بعينها ويكرس لهذا الجهد حياته ، رغم ما يعنيه ذلك من تضحيات مادية وأدبية فيما كان يمكن أن ينجوفيه من مسالك الحياة الأخرى ، ولا يرتكن في كل ذلك إلا على إيمان بغايته العامة وثقته بملكاته الذاتية . وتبقى لديه القدرة على معالجة نفسه ومشاكل حياته بهذا الإصرار الذي لا يستند إلا إلى هدف عام مجرد وثقة بالنفس لا يؤيدها مظهر خارجی سنين طويلة ، ويمكن أن ينصور كيف تكون أزمات النفس في هذه الأحوال ، رغم الضيق أحيانا ، والضغط والتضييق أحيانا واغراء المفاتن في أكثر الأحايين . لقد صدق الرافعي قراءه عن نفسه عندما قال « إني اجنهدت أن آخذ من الحياة التالية أقصى ما أستطيع ويمكنني أن أقول إن نصيب الإنسان منها يتبع مبدئيا الوسط والبيئة التي يعيش فيها ، فالمجتمع الذي يؤمن بها يساعد بداهة على أن يحياها المواطن الصالح ، والمجتمع الذي لا يؤمن بها يخذلها ويباعد بين الإنسان وما ينشده منها ، على أن الإرادة الشخصية لها دخل في توجيه المواطن إليها ، وهي على أي حال تحتاج إلى ذخيرة من الصبر ، ومن الصوفية الوطنية ، تجعل المرء غير مكترث لما يلقاه من العقبات والمتاعب » . ثم يكشف عما يتصف به من « الحياء » و « العناد » ويقول إنه عبثا حاول أن يعالج هذا الأمر « وتساءلت لكي أقنع نفسي بالإقلاع عنه (العناد) : كيف يتفق الحياء مع العناد ؟ فلم أجد جوابا مقنعا إلا أن کليهما عيب ولكن لا سبيل إلى التخلص منهما » . والحقيقة أن الحياء كثيرا ما يظهر على أنه احتجاج سلبي على واقع سيئ ، وأنه دليل على الرفض وعدم التلاؤم ، وأن العناد هو المظهر الإيجابي لهذا الاحتجاج ، وهو معاندة سلبيات الواقع ومقاومتها من دون النفس والإصرار على موقف يراه الإنسان حقا ولو حاصره ما يظن أنه الباطل . ويبدو أنه لولا هذين « العيبين » ولولا هذه الصوفية الوطنية لما شاهدنا . عة الرافعي التاريخية كاملة .
وكان هذا الدأب منه فضيلة أخلاقية قل من يتصف بها ، بما فيه من إنكار للذات وبذل أقصى الجهد بغير عائد أدبي عاجل ولا عائد مادی عاجل أو آجل . وضع أشبه بمقام الفناء في لغة المتصوفة ، ولا يكاد يشاهد مثل بارز له الآن إلا ما كان من الأستاذ نجيب محفوظ في الشطر الأول والأكبر من تاريخ نشاطه الأدبي . فرد يعمل وينشط بغير مشجع من هيئة ما ولا انتماء إلى مؤسسة بعينها ويكرس لهذا الجهد حياته ، رغم ما يعنيه ذلك من تضحيات مادية وأدبية فيما كان يمكن أن ينجوفيه من مسالك الحياة الأخرى ، ولا يرتكن في كل ذلك إلا على إيمان بغايته العامة وثقته بملكاته الذاتية . وتبقى لديه القدرة على معالجة نفسه ومشاكل حياته بهذا الإصرار الذي لا يستند إلا إلى هدف عام مجرد وثقة بالنفس لا يؤيدها مظهر خارجی سنين طويلة ، ويمكن أن ينصور كيف تكون أزمات النفس في هذه الأحوال ، رغم الضيق أحيانا ، والضغط والتضييق أحيانا واغراء المفاتن في أكثر الأحايين . لقد صدق الرافعي قراءه عن نفسه عندما قال « إني اجنهدت أن آخذ من الحياة التالية أقصى ما أستطيع ويمكنني أن أقول إن نصيب الإنسان منها يتبع مبدئيا الوسط والبيئة التي يعيش فيها ، فالمجتمع الذي يؤمن بها يساعد بداهة على أن يحياها المواطن الصالح ، والمجتمع الذي لا يؤمن بها يخذلها ويباعد بين الإنسان وما ينشده منها ، على أن الإرادة الشخصية لها دخل في توجيه المواطن إليها ، وهي على أي حال تحتاج إلى ذخيرة من الصبر ، ومن الصوفية الوطنية ، تجعل المرء غير مكترث لما يلقاه من العقبات والمتاعب » . ثم يكشف عما يتصف به من « الحياء » و « العناد » ويقول إنه عبثا حاول أن يعالج هذا الأمر « وتساءلت لكي أقنع نفسي بالإقلاع عنه (العناد) : كيف يتفق الحياء مع العناد ؟ فلم أجد جوابا مقنعا إلا أن کليهما عيب ولكن لا سبيل إلى التخلص منهما » . والحقيقة أن الحياء كثيرا ما يظهر على أنه احتجاج سلبي على واقع سيئ ، وأنه دليل على الرفض وعدم التلاؤم ، وأن العناد هو المظهر الإيجابي لهذا الاحتجاج ، وهو معاندة سلبيات الواقع ومقاومتها من دون النفس والإصرار على موقف يراه الإنسان حقا ولو حاصره ما يظن أنه الباطل . ويبدو أنه لولا هذين « العيبين » ولولا هذه الصوفية الوطنية لما شاهدنا . عة الرافعي التاريخية كاملة .
رواج مؤلفاته
وإذا كان رواج مؤلفاته نسبيا ، قد بدأ في الأربعينيات وعلى مشارف نهاية الحرب العالمية الثانية ، فيمكن أن يتصور كيف أفاد بها شباب الأربعينيات الذي ولج ميدان السياسة مع نهاية الحرب بنزوع وطنی دیمقراطی وفكر جديد وطاقة مشحونة .. وبشوق زائد لمعرفة تاريخ وطنه ، ويمكن القول إن مؤلفات الرافعی التاريخية كانت المادة الأساسية التي تغذي بها شباب الأربعينيات في تطلعه لمعرفة أحداث بلده ، وساعدته هذه المادة على تفتيح اتجاهاته السياسية ووصلها بتاريخ وطنه وإن أي مطلع على الكتابات السياسية لشباب الأربعينيات ليدرك مقدار ما أفادت من تاريخ الرافعي في استطلاع أحداث الحركة الوطنية المصرية والاعتبار مسيرتها .
وإذا كان المعروف عن الرافعي لدى أجيال الماضي أنه مؤرخ فحسب ، فالحقيقة أنه كان في نظر جیله سیاسيا أولا : عمل بالسياسة منذ كان طالبا ، وكان يشتغل بالمحاماة منذ تخرجه في الحقوق قبل أن يبلغ العشرين من عمره حتى صار نقيبا للمحامين . وكان برلمانيا في أول مجلس نواب بعد ثورة ١٩١٩ وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ثم في مجلس الشيوخ على مشارف الأربعينيات ولم يصدر أول كتبه التاريخية إلا وهو في الأربعين .
وقد يكون من المفيد تقديم الرافعي السياسية من خلال الصيغة الفكرية التي خلال نشاطه العملي ، ولا شك أن « الرافعي السياسی » هو خير من يفسر « الرافعي المؤرخ »
وإذا كان المعروف عن الرافعي لدى أجيال الماضي أنه مؤرخ فحسب ، فالحقيقة أنه كان في نظر جیله سیاسيا أولا : عمل بالسياسة منذ كان طالبا ، وكان يشتغل بالمحاماة منذ تخرجه في الحقوق قبل أن يبلغ العشرين من عمره حتى صار نقيبا للمحامين . وكان برلمانيا في أول مجلس نواب بعد ثورة ١٩١٩ وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ثم في مجلس الشيوخ على مشارف الأربعينيات ولم يصدر أول كتبه التاريخية إلا وهو في الأربعين .
وقد يكون من المفيد تقديم الرافعي السياسية من خلال الصيغة الفكرية التي خلال نشاطه العملي ، ولا شك أن « الرافعي السياسی » هو خير من يفسر « الرافعي المؤرخ »
قد تعجك ايضاً :
انتهى الموضوع ...
شكراً لكم