سعد زغلول وفكره السياسي

سعد زغلول وفكره السياسي

كانت ثورة ۱۹۱۹، التي تزعمها سعد زغلول ، ثورة وطنية ديمقراطية ، تركزت أهدافها  في  هذين  الجانبين واستهدفت تحقيق الاستقلال التام وإقامة الحياة النيابية الدستورية . والمهم هنا محاولة تقصى الفكر السياسي لسعد زغلول في هذين الجانبين ، مع الإشارة إلى موقع هذا التفكير من التيارات السياسية التي كانت دائرة في مصر في الأدوار المختلفة من حياته . 
 

فكره الوطني

ويقتضي الحديث عن الفكر الوطني ، الإشارة إلى نشوء الجماعة الوطنية لمصر عناصرها وعقباتها ، كما يقتضي الحديث عن الفكر الديمقراطي ، الإشارة إلى موقف سعد من السلطة ورأيه في طريقة تكوينها .

ملاحظة

وأول ما يلاحظ أن سعد زغلول ، لم يكن مفكرا صاحب نظرية ولا داعية سياسيا ، يمكن أن تلتقط أفكاره من خلال كتاباته ودعاویه ، ولكنه كان « رجل دولة عملی المنزع يهتم بالقضايا التنفيذية ويعبر عن ن خلال المواقف العملية والمسائل الجزئية ، وهو يتخذ مواقفه ضمن الملابسات الواقعية التي تحيط به ، ويستجيب في هذه المواقف للسياق العام للأحداث والظروف ، ويمكن تتبع مواقفه من خلال هذا السياق العام ، والاستدلال على نسيجه الفكري ومنزعه النظری ، والمصادر التي شكلته .

وثانی مالاحظ ، أن سعدا تتلمذ على الشيخ محمد عبده منذ بداية حياته العامة ، ثم أصبح عميدا للحزب المدني للأستاذ الإمام ، على ما يذكر السيد رشید رضا .

كان سعد زغلول جسرا بین ثورتين، أدرك الثورة العرابية في بداية حياته السياسية ، وهو شاب في العشرينيات ، ثم امتدت قامته السياسية ليصبح إماما للمصريين في ثورتهم الكبرى الثانية سنة ۱۹۱۹.وحمل إلى جيل بداية هذا القرن ، رسالة ثورة عرابي وحلمها الوليد النامی《مصر للمصريين》.

ولادته

 كان ريفي المولد  والنسب  والتربية  ،  ولد  سنة  ۱۸٥۷ بقرية أبيانة بالغربية لإحدى الأسر الريفية ذات اليسار والزعامة الاجتماعية . وقريته -  كما  يقول  العقاد - بعيدة عن العواصم حيث تستقر سطوة الحكام ، غير بعيدة عن آثار عسفهم وفسادهم ، وأسرته من الطبقة المتوسطة ليست من الثراء بحيث تنعزل عن مطالعة شقاء المجتمع ولا من البؤس بحيث تنكسر أمام الظلم . ويأتي مترجمو حياة سعد على أخبار تصدی أبيه لحكام الإقليم الأتراك ، إظهارا لما تربى عليه هو من الشعور بالتميز القومي عن هؤلاء الحكام ، ومن اكتسابه روح المجابهة ضدهم ، وعندما شب الفتي سلك في التعليم المسلك المتاح للمصريين أبناء الريف ، حفظ القرآن وتعلم الحساب في كتاب القرية ، ثم سافر إلى القاهرة طالبا لعلوم الأزهر ، وسعد بهذا من أقحاح الفلاحين ممن لم یشب تربيتهم الأولى عنصر أجنبي . ولمن يطالع برنامج « الحزب الوطني الأهلى » الذي شكل بزعامة عرابي في ۱۸۷۹ يلحظ أهمية النشأة الريفية في تحديد الهوية المصرية وقتها من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها ينضم لهذا الحزب فإنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات ..

وافق مجيء سعد إلى القاهرة سنة ۱۸۷۱ ، وصول جمال الدين الأفغانی إليها ، وما لبث هو أن تحسس طريقه إلى جماعة الأفغاني ومحمد عبده ، وتفاءل الأفغانی به خيرا لما قرأه له دفاعا عن الحرية . فلما عين محمد عبده رئيسا لتحرير الوقائع المصرية عين سعدا بها . وعند نشوب الثورة في ۱۸۸۲ ، كان سنه يصل إلى الخامسة والعشرين ، شابا لفحه لهيب الثورة يطعن الاستبداد ويطلب حكم الشورى ويرتبط بالأستاذ الإمام فكرا وعملا ، و وكان الأستاذ الإمام من الجناح المعارض لأساليب العرابيين المتطرفة دفاعا عن منهج الإصلاح التدريجي ، ولكنه التحم به لما هاجم الإنجليز مصر وعمل معهم ما استطاع تنظيما للمقاومة ، ولما فشلت الثورة ووجه بتهمة الدعوة لخلع الخديو ، ونفي إلى بيروت ثلاث سنوات . وكان سعد خلال مدة نفى الإمام على اتصال به لا يبدو أنه انقطع ، ويظهر صلتهما الفعلية ما كتبه سعد إلى الإمام أثناء نفيه ، « مولای : ذكرت لحضرتك أن الضعف ألم بفکری فبالله ألا ما قويته بتواصل المراسلة غير تارك فيها ما عودتنا على سماعه من النصائح والحكم التي نهتدي بها إلى سواء السبيل.

ألقاء القبض عليه

في هذه الأثناء ، فصل سعد من وظيفة حكومية كان يشغلها ثم قبض عليه بتهمة تكوين جمعية سرية باسم جمعية الانتقامه . فلما أفرج عنه اشتغل بالمحاماة ، وكانت على ما يذكر مؤرخو الفترة مهنة لا يحيط بها الاحترام ، ولكن سعدانهج فيها نهجا من الاستقامة ارتفع بها وبنفسه إلى مستوى المهن ذات الاعتبار ، واشتهر فيها بقوة العارضة والتزام الجادة وبالاستقامة ، ثم عاد الأستاذ الإمام في ۱۸۸۸ وعين قاضيا بالمحاكم الأهلية بعد أن رفض الخديو اشتغاله مدرسا بدار العلوم تجنبا لتأثيره على الطلبة ، ثم عين مفتيا للديار المصرية ، بعد فصل هذا المنصب عن مشيخة الأزهر في ۱۸۹۹ ، وصرف نشاطه حتى وفاته سنة ۱۹۰۰ في الدعوة لإصلاح الأزهر والتعليم . ومن خلال ذات الفترة ، علا نجم سعد المحامي ، حتى اختير- بتوسط الإمام . قاضيا بالمحاكم في١٨٩٤ ثم مستشارا ، ثم عين وزيرا للمعارف سنة ١٩٠٦ .

من خلال الثورة العرابية اطرد نضوج الوعي الوطني ، وبدأت الجماعة السياسية في مصر تدرك هويتها وذاتها ، كان لظهور طبقة ملاك الأرض المصريين بعد انتهاء نظام الالتزام والعهدة أثر في ذلك . وكان لحركة تعليم أبناء الفلاحين واستخدامهم في الجيش والإدارة أثره أيضا . وتقدمت الثورة بشعار《مصر للمصريين》ضد .. الأتراك والجراكسة المسيطرين على جهاز الدولة جيشا وإدارة ، والخاضعين للنفوذ الأوربي الأخذ في التغلغل في الحياة الاقتصادية والسياسية . على أن المفهوم القومی كان موجها في الأساس ضد هذا النفوذ ، وضد الاستبداد الشرقي الذي يمارسه الخديو ومن يحيط به من ذوي الأصول التركية والجركسية .

        ولم يكن ثمة خلاف بين  العرابين  واتجاه محمد عبده حول الفكرة الوطنية . وقد أوضح بيان « الحزب الوطني الأهلي » مفهوم هذا الولاء المتميز عن المشاعر الدينية الحزب الوطنی حزب سیاسی لا دینی . فإنه مؤلف من رجال مختلفی الاعتقاد والمذهب . وجميع النصارى واليهود ، ومن يحرث أرض مصر .. وحقوقهم في السياسة والشرائع متساوية ، وهذا مسلم عند أخص مشايخ الأزهر .. ويذكر محمد عبده بالوقائع المصرية في ۲۸ نوفمبر ۱۸۸۱ ، « لابد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها ويجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجرا صلدا ، وأن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه .. إن ياء النسب في قولنا مصری وانجليزي وفرنساوی هی من موجبات غيرة المصري على مصر .

     والواضح من تتبع أحداث الثورة العرابية ، والحركة الفكرية التي واكبتها ، أن الهدف الوطني اندمج بالهدف الديمقراطي ليصوغا معا شعار « مصر للمصريين » وسبب هذا أن الوجود الأجنبي الذي بدأت الذاتية المصرية تنهض ضده ، كان يتمثل في جهاز الدولة الحاكم ، وكان هو ذاته عين الحكم الاستبدادي الذي يرتفع ضده مطلب الديمقراطية ، فكانت الديمقراطية سلاح الحركة الوطنية ووسيلتها لطرد الأجنبي ، وذلك بما تعنيه من تكوين مؤسسات الحكم على قاعدة من الانتخاب الذي يجري بين أفراد الشعب . فكانت الديمقراطية وسيلة تمصير الدولة ، تعنی حکما نيابيا وإقصاء النفوذ الأجنبي معا ، وهنا نجد محمد عبده - في مقاله السابق ۔ يعرف « الوطن » بما يتمشى مع هذا المفهوم « مكانك الذي تنسب إليه يحفظ حقك فيه ويعلم حقه عليك ، وتأمن فيه على نفسك والك ومالك ، ومن أقوالهم « أهل السياسة فيه : لا وطن إلا مع الحرية . وقال لابروير الحكيم الفرنسي : « لا وطن في حالة الاستبداد .. إن في الوطن من موجبات الحب والحرص . وضمن هذا النطاق عرفت لمحمد عبده أحاديث عن الشوری والاستبداد ، كما حفظ التاريخ مقالا لسعد بالوقائع المصرية يقول فيه « المستبد عرفا من يفعل ما يشاء غير مسئول ، ويحكم بما يرسم به هواه وافق الشرع أو خالفه ، وأن الناس نفروا من ذلك بعد أن شاهدوا النفوس تذهب فيه ظلما وتؤكل فيه الأموال أكلا لا ، وتسفك الدماء زورا وتدمر البلاد تدميرا

تغير الوضع

تغير الوضع مع الاحتلال البريطاني « فأولا » أصابت هزيمة العرابيين الحركة المصرية بالانتكاس ، ويمكن أن يتصور أثر لطمة الاحتلال في تشتت ثقة جيل العرابيين نفسه ، هزيمة عسكرية ، واحتلال أقام مهرجانات نصره باره بالقاهرة وضعف أبداه بعض قادة الثورة ، وشعور عام مخدر من هول الصدمة ، وضعف مرير في الأمل في أن ثمة مخرجا منظورا ، وإحساسا بیاس الوطنية الوليدة في مواجهة العنفوان الأوربي بآلاته ومخترعاته وبدقة تنظيماته السياسية والعسكرية والاقتصادية ثم لا يكاد يلحظ في العالم الخارجي إلا امتداد موجة الاستعمار في العالم غير الأوربي كله ، وإلا هزائم تصادفها حركات شعوب الشرق . ثم عودة الحكم الخديو المستبد مدعما بالاحتلال البريطاني ، وإحساس بأنه قد أصبح قدر الأحياء في هذا الجيل أن يقضوا حياتهم في ظل حاكم يمثل لهم أبغض أساليب الاستبداد ، وأبشع أنواع الخيانة الوطنية . كانت الجراحات أعمق من أن يدركها التداوي السريع . وكان انتصار الباطل محنة للشرفاء ، ومحنة للعقائد والقيم . وقد أقصى الكثيرون من الحياة العامة بالنفي والسجن وبالهرب ، واستعفی آخرون لاذوا بالصمت ، ووصل غيرهم إلى أسلوب نفعی ، فإذا لم يكن ما نريد فارد ما يكون وراوغه ، ومادامت مصر لا تستطيع طرد الإنجليز ، فلنعمل على أن تغنم من وجودهم مثيرة الصراع بين سلطتهم وسلطة الخديو .

قد تعجبك ايضاً :
انتهى الموضوع ...
شكراً لكم